اللغة العربية هوية دينية

الحديث عن علاقة اللغة بفطرة الإنسان، وعلاقتها بالناحية العقلية عنده؛ يختلف في درجة الأهمية وحجم الخطورة عن الحديث حول علاقة اللغة بهوية الإنسان؛ وذلك حين تكون العلاقة بالذات الثقافية وشخصية الأمة، الشاملة للمعتقدات والتصورات، والخصوصيات الشعبية، والجذور القومية، التي تخصُّ كل أمة على حدة. فالثقافة تعني لكل أمة: أفكارها وقيمها وعاداتها وأنماط سلوكها، وطريقة حياتها في مختلف جوانب نشاطها الإنساني. وهي عند الأمة الإسلامية تعني: نهج حياتها في جميع جوانبها المختلفة؛ حيث تتكون – في الفكر الإسلامي– من عنصرين أساسين، الأول: الشكل، وتمثله اللغة. والثاني: المضمون، ويمثله الإسلام.
العربية والإسلام:
ومن هنا يظهر الارتباط الوثيق بين اللغة العربية من جهة، والدين الإسلامي من جهة أخرى؛ ولهذا فإن علاقة المسلم العربي بلغته أكبر بكثير من علاقة غيره بلغته، بل إن علاقة المسلم غير العربي باللغة العربية –وإن كان لا يجيدها– أبلغ وأوثق من علاقته بلغته الأصلية التي يتقنها، فكما أن اللغة برموزها ومفاهيمها خاصية إنسانية، يتميز بها الإنسان عن الحيوان، فكذلك نوع اللغة أيضاً خاصية شعوبية، تميز الأمم بعضها عن بعض، فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل والتفاهم فحسب؛ وإنما هي– بالدرجة الأولى– أداة للتعبير عن الثقافة، حين تعكس مضامينها وأنماطها للعالم، وذلك حين تستمد مضامينها وموضوعاتها المختلفة من ثقافة المجتمع؛ فتحفظ له بأمانة جميع ودائعه الثقافية؛ ولهذا لا يمكن تعلم لغة ما "إلا من خلال الثقافة والحضارة التي أوجدتها، فاللغة بمعناها الأوسع ما هي إلا تعبير عن مدنية، ووعاء لتراث حضاري"؛ فهي المسؤولة عن حفظ هذا التراث ورعايته ونقله، فالمتعلم للغة ما لابد أن يدرك البيئة التي تفرضها تلك اللغة، فيتعلم من ثقافتها، ويعبر – أيضاً – عنها بصورة من الصور، "فاللغة جزء من الثقافة، والثقافة جزء من اللغة، لا تنفصل إحداهما عن الأخرى".
اللغة وعاء ثقافي:
ومن هنا فإن الأمم مهما تجردت عن خصوصياتها، والتزمت الموضوعية العلمية في وصف الأشياء والمعارف: فإنها لا تستطيع أن تنحِّي ذاتها الثقافية بصورة كاملة؛ بحيث تبتدع لغة علمية مجردة تماماً من الخصوصية الاجتماعية والثقافية، ولئن كان ذلك مقبولاً –إلى حد ما– في التعامل مع المصطلح العلمي الذي يتداوله الباحثون المتخصصون في الجامعات والمراكز العلمية: فإن ذلك مرفوض في حق المصطلح الحضاري الذي تحمله المنتجات والمخترعات الوافدة؛ لأنه يدخل في صلب حياة الناس، ويتداوله العامة ضمن لغتهم الأصلية.
اللغة والأمة:
ومع وجود هذه الرابطة الوثيقة بين اللغة والثقافة المكونة للهوية المميزة للأمم، فإن اللغة تتخطى ذلك لتكون أداة كل أمة للتواصل الشعبي، والتجمع القومي، والانصهار الثقافي العام بين أفراد الأمة الواحدة، فهي الجهاز الأساس للمحافظة على روابط المجتمع، وهي وسيلة المجتمع الفعالة للتطبيع الاجتماعي، الذي يهدف في النهاية إلى الوحدة الثقافية.
واللغة العربية مع كونها أداة للنمو الروحي عند المسلمين حين دخلت في صلب نهج العبادة؛ فإنها إلى جانب ذلك لغة جميع المسلمين من كل جنس وإقليم، وبها يتواصلون ويتعارفون، فالمحافظة عليها: محافظة على وحدة المسلمين الثقافية، وهويتهم الدينية.
اللغة والهوية:
ولعل هذا المعنى الخاص للغة، وخطر تأثيرها على هوية الأمة هو الذي دفع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليوجه المسلمين حين انفتحت الأمة المسلمة على ثقافات الأمم الأخرى بعد الفتوحات الإسلامية حيث قال لهم: "إياكم ورطانة الأعاجم"، وهذا المعنى أيضاً للتأثير اللُّغوي هو الذي دفع المسلمين في الزمن الأول نحو ترجمة العلوم الأجنبية التي احتاجوا إليها من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية، فكانت العربية هي لغة المنهج ولسان التعامل بين المسلمين، وهو المعنى أيضاً الذي دفع بعض دول أوروبا لاشتراط تعلم لغاتها القومية على الأجانب المهاجرين إليها، فليس بغريب في كثير من الدول الأوروبية التي لا تتحدث باللغة الإنجليزية أن يجد السائح الأجنبي صعوبة في التفاهم مع أهلها باللغة الإنجليزية.
اللغة والتراث:
ولقد استوعب المستعمر الأوروبي هذا الدرس حين غزا بلاد المسلمين، فعمل بدأب منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي على فصل المسلمين عن تراثهم الإسلامي، حين سعى إلى إضعاف اللغة العربية، من خلال فرض اللغة الأجنبية، والترويج للهجات العامية، وبث الأدب الشعبي، وطرح فكرة استخدام الحرف اللاتيني، والدعوة لإصلاح قواعد اللغة العربية وتطويرها، آخذين في كل ذلك بتوصيات جمع من المستشرقين المتخصصين في شؤون الشرق الإسلامي، التي تستهدف في الظاهر اللغة العربية وفي الحقيقة تستهدف هوية الأمة الإسلامية في تراثها وحضارتها، وخصوصياتها الثقافية، حين أيقن المستعمر أن اللغة ركن من أركان الهوية الثقافية، تشترك مع العقيدة والتراث في بناء الذات، ففي هدمها هدم للذات.

بتصرف واختصار من مقال بعنوان: مركزية اللغة العربية في الهوية الإسلامية، منشور بموقع د. عدنان باحارث على الشبكة العالمية.