الأرقام العربية
التعدد سمة إلهية خلق الله بها هذا الكون، وبث بها مخلوقاته في كل الأرجاء إلى جانب سمة التنوع؛ ولذلك فلا يمكن للبشر أن يحيوا حياتهم الأرضية ويبنوا علاقاتهم الإنسانية ويقيموا فيما بينهم تعاملاتهم اليومية دون أن تكون حاجتهم إلى العدّ والإحصاء ماسّة وضرورية.
ومن هنا كان للحضارات البشرية القديمة المتعاقبة أو المتزامنة إسهاماتها المختلفة في هذا المجال؛ ابتداء بالبابليين ثم المصريين، ومرورا باليونانيين والهنود، وانتهاء بالعرب الأقدمين الذين وضعوا رموزا مستقلة لرسم الأرقام إلى جانب رسمهم إياها بالحروف والكلمات.
ابتكار عربي في ظل الإسلام
وحين دخلوا في الإسلام، بعدما أنزل الله عليهم القرآن بلغتهم، وجاء فيه ذكر الأرقام، وفتحوا مِن بعدُ البلادَ والأمصار، ودخلت شعوب وأمم في دين الله أفواجا، وأحبوا القرآن ولغته فامتزجوا بالعرب وتزاوجوا وتعرّبوا؛ ساهموا حينها بأجمعهم بفعل التطور الكبير الذي ارتقوا إليه تحت ظل الإسلام في ابتكار رسم عربي جديد يخالف كل ما عهدوه في السابق من طرق مختلفة لرسم الأرقام، ويلائم في الوقت نفسه طريقة العرب المعهودة في رسم حروفهم وكلماتهم. إنها الحاجة بل الحاجات التي تعددت وتنوعت في ظل الرقي السريع على درجات سلم الحضارة، فكانت تلك الحاجات هي أم الاختراع الأصيل للأرقام العربية المستعملة بصورتها ورسمها المعهود إلى اليوم.
في القرن الثاني الهجري
إن الأرقام العربية تُرسم هكذا من حيث الشكل: «٠، ١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧، ٨، ٩»، وتكتب مسايرة للقلم العربي من اليمين الى الشمال آخذة رسمه الهندسي، وهي عباسية، بغدادية الصنعة، عربية النجار، عرفت بشكل واضح في القرن الثاني الهجري، وبقي المسلمون كافة يستخدمونها في أصقاع العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، وكان (العرب) قبلها يستخدمون عوضا عنها حروف الجمّل خوف الخلط والتصحيف والتحريف والزيادة والنقص. وأول نص عربي حفظ لنا هذه الأرقام هو حروف الأرقام التي وجدت أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد.
رأيان في أصل الأرقام العربية
وينقسم الباحثون في أصل هذه الأرقام إلى فريقين، أحدهما يرجعها إلى محتد هندي؛ مع القول بتهذيبها وتحويرها وتطويرها على يد العرب، ثم انتقالها وترحالها إلى أنحاء العالم بفضلهم، ويستندون في رأيهم إلى:
١- المؤرخ اليعقوبي الذي نسب وضع هذه الأرقام لأحد ملوك الهند، وأن الإقليدسي سماها أحرف الهند، وأن ابن النديم عزاها إلى السند، وأن ابن الياسمين قد عد حساب الغبار في جملة أعمال أهل الهند، وأن نصر الدين الطوسي ذكر أنها منسوبة إلى الهند.
٢- أن حكماء الهند وضعوا تسعة أرقام للعقود التسعة المشهورة.
الرأي الثاني وحُجَجُه
أما الفريق الثاني من الباحثين في أصل الأرقام العربية فإنهم يرون العراقة العربية لهذه الأرقام، ويجزمون بأصلها العربي لا غير ذلك. ويستند بعضهم على حجج وجيهة منها:
١- أن الأرقام العربية هي غير الأرقام التسعة التي وجدت متناثرة في اللغات الهندية المختلفة.
٢- أن أول من وضع لنا هذه الأرقام بشكلها الحالي هو محمد بن إبراهيم الفزاري، المتوفى سنة ١٨٠هـ/٧٩٦ ميلادية.
٣- أن الفلكي محمد بن إبراهيم الفزاري الكوفي قد ألف كتابا سماه (السندهند الكبير) ونقل فكرة الأعداد من الهنود، ووضع لها الأشكال التي هي عليها بأمر الخليفة أبي جعفر المنصور، لذا فهو نقل فكرة ولم ينقل وضع الأشكال والأعداد الهندية أو صورها.
٤- أن النظام العشري غير منقول عن الأمم الأخرى؛ وإنما هو أصيل عرفه العرب في بيئتهم، وأنه كان بابلياً، ولا يستبعد أن يكون الهنود قد أخذوه عن البابليين.
٥- أن الأرقام والحروف الأبجدية اختلفت لدى الهنود أنفسهم في إقليم ما عنه في إقليم آخر.
٦- أن شكل الرقم العربي ليس كشكل الرقم الهندي، والاختلاف بينهما واضح، ويذهب الدكتور عدنان الخطيب إلى أن منشأ الأرقام العربية كان صور حروف الأبجدية العربية؛ وليس الأشكال والرموز التي كان الهنود يستخدمونها كما يزعم بعض الباحثين بلا دليل، وأنها لم تقم على تعدد الزوايا التي تحتويها صور كل حرف.
٧- أن أبا الريحان البيروني المتوفى سنة ٤٤٠هـ/١٠٤٨م، قد أشار إلى طريقة الهنود في استخدام الحروف الأبجدية والأرقام بقوله: ليس يجرون على حروفهم شيئا من الحساب كما نجريه على حروفنا في ترتيب الجمّل، وكما أن صور الحروف تختلف في بقاعهم كذلك أرقام الحساب، وتسمى «إنك». والذي نستعمله نحن مأخوذ من أحسن ما عندهم، ولا فائدة في الصور إذا عرف ما وراءها من المعاني، وأهل كشمير يرقمون الأوراق بأرقام هي كالنقوش أو كحروف أهل الصين، ولا تعرف إلا بالعادة وكثرة المزاولة.
٨- أن الخوارزمي قد ذكر نوعين لشكل الأرقام، وقد ساد الأول وما يزال مستعملا، واختفى الثاني بعد أن أصبح أصل الأرقام المستعملة في العالم الآن.
٩- أنه ليس بإمكان مؤرخ واحد في تاريخ العلم وتاريخ الرياضيات خاصة أن ينفي تأثر العلماء الهنود في القرن الثاني عشر الميلادي بمنجزات العرب العلمية وبأعمال البيروني بشكل خاص.
١٠- ما ذكره عمر فروخ في كتابه تاريخ العلوم عند العرب من أن الأرقام ظهرت مع الصفر مرسوما نقطة في كتب عديدة ألفت منذ سنة 787م قبل أن تظهر في الكتب الهندية.
١١- ويذهب الدكتور قاسم السامرائي إلى القول بالأصالة والنجار العربي لهذه الأرقام: أما الأرقام الشائعة في المشرق العربي – الأرقام العربية – فهي أرقام آرامية فينيقية نبطية تدمرية، فهي لذلك عربية الأصل والنجار، لاشك فيها إطلاقا ولا عبرة ولا اعتبار لما يقوله الإقليميون من الإخوة المغاربة والمقلدون من المشارقة، فإن حقائق التاريخ العلمية يجب أن لا تستند على عواطف محلية؛ بل على أسس علمية منطقية محضة وبراهين وثائقية لاشك فيها مما يستنبطه الباحث من الاكتشافات المستمرة للنقوش والوثائق.
١٢- أن بارون كارل دو يذهب إلى عروبة هذه الارقام.
١٣- ويذهب حسن ظاظا وزملاؤه إلى القول: بتأثر الكاتب العربي في رسمه للأرقام بفكرة أن تكون كلها مبنية على الخطوط المستقيمة؛ على أن تكون الدائرة هي الرقم خمسة فاصلا بين نصفي الأرقام القائمة كلها على خطوط مستقيمة؛ لأن الخط المستقيم في الأبجدية يعتبر عندهم مقياسا لجمال الكتابة.
النتيجة
ويستنتج مما سبق ما يلي:
١- أن العرب هم أول من حفظ هذه الأرقام بشكلها الحالي منذ القرن الثاني الهجري ولا يعرف ذلك لغيرهم.
٢- أن هذه الأرقام التسعة تختلف عن أرقام الهند التسعة.
٣- أن العرب نقلوا من الهنود أسلوب العد ولم ينقلوا منهم وضع أشكال الأرقام.
٤- أن محمد بن إبراهيم الفزاري هو الذي وضع الأشكال لأسلوب الهند في العد.
٥- أن الهنود لا يجرون على حروفهم شيئا من الحساب كما يجريه العرب على حروفهم.
٦ أن هذه الأرقام ظهرت في كتب عربية قبل أن تظهر في الكتب الهندية.
٧- ومن المسلمات القطعية أن شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب وهما موطن العرب قد سبقا بحضارتهما حضارات الأرض الأخرى، وفيها عرفت اللغة والنظم والتجارة والعمارة وحتى العد قبل الهند وفارس وقاطبة الأرض، فلا يعقل نكران تأثيرهم على الحضارات المجاورة لهم وفضلهم على غيرهم لبرهان السبق.
٨- أن الرسم العربي لهذه الأرقام أسهل وأقرب إلى المنطق، فالرقم (٢) مكون من عنصرين اثنين يضاف إليها سن آخر لنحصل على الرقم «٣»، ويكرر الرقم «٢» لنحصل على الرقم «٤»، والرقم «٥» يتكون من دائرة ويجعل لها خط مستقيم فنحصل على الرقم «٩»؛ ولذلك رسم الأرقام «٦، ٧، ٨» أسهل كلفة وبساطة وتوازنا وحتى على مستوى المتدرب على الكتابة؛ فانه لا يجد صعوبة في ذلك؛ على خلاف مثيلاتها من الأرقام الأجنبية التي تعتمد على خط غير مستقيم أو دوائر بعضها غير مغلق مثل الأرقام السنسكريتية «0 – 1 – 2 – 3».
٩- أن الناظر إلى الأرقام العربية القديمة مثل الحميرية والفينيقية والآرامية والتدمرية والنبطية يجد تطابقا في بعض أرقامها وعلاقة ما بين بعض وآخر، مما يدل على أصل واحد لها، وتطور كتابي لبعض منها، والأمر كذلك في أكثر الحروف الهجائية العروبية القديمة.
١٠- الرقم 1415 يقرأ خمسة عشر وأربعمائة وألف، وهذه قراءة صحيحة، ولربما أخذت قراءة على النحو: خمسة، واحد، أربعة، واحد، ولو قرأت الرقم نفسه على طريقة المتساهلين: ألف وأربعمائة وخمسة عشر؛ لما جاز، ولو اختزل على هذه الطريقة نفسها وقيل: واحد، أربعة، واحد، خمسة؛ لأصبح العدد مغايرا وهو 5141 ولفسد الأمر.
١١- أن الأرقام منذ زمن الخليفة هارون الرشيد إلى يومنا هذا لا خلاف حول رسمها؛ مما يدل على أن صناعتها كانت خاضعة لقانون من الرسم والهيئة دقيقٍ، وليس لشكل من أشكال اجتهاد الخطاطين أو غيرهم، وهذا ينطبق فيما يخص الحروف الهجائية التي استمدت شكلها من رسم مرتب بعناية فائقة.
بتصرف واختصار من مقال هزاع بن عيد الشمري بعنوان: وما بقيت من اللذات إلا…؟!، المنشور في الموقع الإلكتروني لصحيفة الجزيرة، العدد ١٠٨٦٣ بتاريخ ١٥ ربيع الثاني ١٤٢٣، الرابط الإلكتروني:
https://www.al-jazirah.com/2002/20020626/rj2.htm